في الصراع السياسي والعسكري المحتدم الذي دام حوالي أربع سنوات في سوريا، وشهد مجازر رهيبة وتبدلات في الوضعيات العسكرية بين دفاع وهجوم ومكاسب عسكرية وهزائم، وتحول اليوم إلى ما يشبه حرب الاستنزاف، مع تبدلات في الآفاق السياسية الغالبة، من ثورة ضد نظام مستبد ذات أفق تحرري، إلى صراع عسكري ضد "النظام النصيري" بأفق إقامة دولة إسلامية.
أقول من الطبيعي في هذا الصراع أن يفتش المرء عن الدافع النفسي والسياسي عند من يقاتلون على الأرض وما زالوا يقاتلون بعد كل شيء. لماذا يقاتلون؟ عن أي تصوّرات يصدرون في موتهم المزمن هذا؟ من أين تتجدد طاقة المواجهة والاستعداد للقتال والقتل؟ ألا يفت في عضد المقاتلين استنقاع هذا القتال الذي لم يثمر بعد كل هذا الزمن سوى المزيد من الموت والخراب؟ لا شك أن القتال يجرف المقاتل ويبعده عن ذاته ليلحقه أكثر في مجال نفسي سياسي يشكل مزاج المعسكر الذي يقاتل فيه، ولا شك أن وجود المقاتل تحت تهديد المعسكر الآخر يعطيه المبرر اليومي لمواصلة القتال، فالمعركة تستولد بصورة متواصلة دوافع استمرارها لدى المقاتلين. ولكن ألا يستعيد المقاتل ذاته في لحظة ما ويسأل نفسه لماذا أقاتل؟ "إنني أقاتل لأنني في معركة"، ليس هذا بالجواب الكافي لا شك. لا بد للمقاتل من تصوّر يبرر له وجوده تحت خطر الموت ويبرّر له قتل الآخرين.
المبرر الغالب لدى القوى الإسلامية التي تقاتل النظام اليوم هو إقامة دولة إسلامية "ترضي الله" وتقيم شرعه على الأرض، كما يتوّهمون. واختارت النسخة "الداعشية" من هذه القوى مساراً هو الأنسب لديمومتها حين أبعدت هدف "إسقاط النظام" عن أولوياتها لصالح إقامة "الدولة الإسلامية" على ما يتوفر لها من "أراض محررة". فهي بذلك أعطت لأنصارها هدفاً أكثر قرباً وأماناً بحيث بات الداعشي يحلم بأن يعيش في المناطق التي يحررها ويحظى بملذات الدنيا من نساء ومال وسلطة. وفي الوقت نفسه خففت من عدوانية النظام إزاءها، طالما أنها تبقي قواتها محصورة في مناطقها "المحررة". المقاتل في داعش راض إذن عما هو فيه، هناك دنيا تنبسط بين يديه، وآخرة يعده بها الله، هي خير له وأبقى. ويبدو أن جبهة النصرة استساغت أيضاً هذا المسار بعد أن كانت تضع إسقاط النظام على رأس أولوياتها.
ليست الصورة على هذا الشكل من جانب قوات النظام، ولاسيما مقاتلو الجيش. في بداية الثورة، تصرف الجيش كما تتطلب منه وظيفته في الأنظمة المستبدة كجهاز قمع. مع تطور الأحداث وغلبة الدوافع الدينية باتت النسبة الغالبة من الجيش السوري من أبناء الطائفة العلوية، أو على الأقل هم العنصر الغالب في الوحدات التي يعتمد عليها النظام في تنفيذ المهام القتالية المباشرة. غير أن أفراد هذا الجيش لا يدفعهم إلى القتال السعي لتنفيذ مشيئة إلهية ما يتوهمونها، الراجح على دوافعهم هو وهم من نوع آخر، وهم دنيوي يقول إن الدفاع عن نظام الأسد هو الآن السبيل الوحيد للدفاع عن النفس كجماعة بشرية موعودة صراحة بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما صارت اليد العليا للقوى الإسلامية التي تقاتل النظام اليوم بعد أن شاركت النظام في الإجهاز على قوى الثورة السورية التحررية.
لا يخفي الكثير من العلويين اليوم عدم رضاهم عن "بشار الأسد" الذي ورطهم بحرب جرت عليهم الكثير من الخسائر والكثير من الكراهية، ويقول كثيرون منهم إن الأسد الأب كان سيجد حلاً أكثر حكمة من هذا الذي سار به ابنه ووريثه. يقول تقرير لصحيفة الفيغارو عن مناطق العلويين: "عندما يذهب الكبار في السن لزيارة ضريح حافظ الأسد، إنهم يبكون أحياناً، ويصلون قائلين: كان من الممكن أن تكون الأمور معك مختلفة. لقد أدركوا أن بشار أدار الأزمة بشكل سيء". إذن رغم عدم الثقة بحسن القيادة لا يرى مقاتلو الجيش من خيار أمامهم سوى القتال، ليس دفاعاً عن شخص يعتبره الكثيرون من الموالين ضعيف التأهيل السياسي والكفاءة القيادية، بل دفاعاً عن النفس. والدفاع عن النفس يمكن أن يتخذ أبعاداً إجرامية وهجومية تغذيها الخشية الدائمة مما يمكن أن تجره الهزيمة على الجماعة.
ينتهي هذا القول إلى أن ثمة صراع كامن داخل صفوف الموالاة لا يمنعه من الانفجار سوى قوة "العدو المشترك". لم تعد سلطة "الأسد" ملكاً خاصاً كما تعمم على الأفهام وتكرس طوال 40 عاماً. دفع الموالون الكثير من الدماء للحفاظ عليها، وإذا ما نجت هذه السلطة، وفق تسوية ما، فإن احتكارها لم يعد أمراً مسلماً به كما كان من قبل. فضلاً عن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي سيحملها "أهل السلطة الحالية" على ما لحق بصف الموالاة بسبب فشلهم في السير بسياسة أكثر انفتاحاً وأقل تمركزاً حول السلطة.